المادة    
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا في اللقاء السابق عن التطلع الدائم للبشرية لمعرفة الغيب، والبحث الدائم عن الحقيقة، والشوق الدائم إلى معرفة هذا المجهول, وإلى معالجة القضايا الخفية، وأن هذا نهم لا يشبع، وأخذنا مثالاً ونموذجاً على ذلك؛ وهي القضية الكبرى التي دائماً تفكير البشر فيها: وهي قضية نشأة هذا الكون, ونشأة هذه الخليقة الإنسانية, ثم نشأة هذه الحضارة.
واستعرضنا مشكلة عويصة جداً في هذه القضية, وفي هذا الموضوع, وهي مشكلة النقد التاريخي للكتب المقدسة, الذي ظهر في أوروبا , والذي أثر في الفكر الغربي تأثيراً كبيراً وخطيراً جداً، ولا تزال آثاره الآن على المناهج الدراسية والمقررات العلمية, وفي كل مجالات البحث والعلم في العالم كله, وليس فقط في أوروبا أو في الغرب.
وكان آخر ما وقفنا عليه في هذه القضية هي قضية سعة الأبعاد التاريخية التي لدى الغربيين، وكيف أنها ضئيلة وصغيرة في ذلك الوقت عندهم في أيام عصر النهضة ثم التنوير -يعني: في القرن الثامن عشر الأوروبي الميلادي- وكيف أنها بالمقارنة مع التصور العربي للتاريخ نجد أن الفرق كبير، وأن العرب أقرب إلى الدقة من حيث عمق البعد التاريخي في نظرتهم إلى الأجيال أو القرون الماضية.
ونحن إن شاء الله الآن نستكمل الحديث من خلال القرآن الكريم.. وكيف عالج القرآن الكريم هذه القضية؟!
  1. شمول القرآن لقصص أخبار الأمم السابقة

    هذا القرآن الكريم هو حق كما قالت عنه الجن: (( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ))[الجن:1], فهو كلام عجب، ولا يمكن لأحد أن يصف القرآن بأعظم مما جاء في وصف القرآن في القرآن: (( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))[هود:1]؛ فهذا الإحكام وهذا التفصيل في الأحكام, وفي أخبار الأولين والآخرين, وفي تقرير العقائد, وفي كل مشكلة يحتاج إليها البشر، وفي كل إشكال؛ شفاء لما في الصدور من الشكوك والوساوس، فهو بيان وهو شفاء وهو حكمة وهو رحمة وهو هدى وهو موعظة وهو ذكرى.. إلى غير ذلك مما هو حديث شيق عظيم؛ ولكنه ليس هو موضوع مقامي هذا؛ وهو هذه المنزلة العظيمة للقرآن في هذا الشأن.
    فالله تبارك وتعالى قال في هذا الخصوص: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))[النمل:76], (أكثر) يعني: أكثر القضايا العامة المهمة وأكثر المشاكل الحقيقية التي إذا حُلَّت انكشفت المشكلات, وذهبت الشبهات وانجلت، فإما أن يؤمنوا بالحق وإما ألا يؤمنوا عن جحود وليس عن ضعف في الحجة، وهذا يَصدق على كل من يسمع القرآن؛ إن كان مؤمناً به وإن كان غير مؤمن لا يملك إلا أن يوقن بأنه عجب, وأن فيه التفصيل، وأن فيه البيان، وأن فيه الحكمة؛ لكن قصرت أفهام الناس عن الاستنباط مع أنه ميسَّر! (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ))[القمر:17], فهو ميسر في الحقيقة؛ لكن ضعف اللغة وعدم الالتفات أحياناً إليه! -مع الأسف الشديد- حتى في الدراسات التاريخية والحضارية, والدراسات التي تتعلق بهذا الموضوع -موضوع نشأة الكون, ونشأة الحضارة, ونشأة الإنسان, وأحوال الأمم الماضية- والتي تشمل كليات وتخصصات الجامعات؛ حتى في الجامعات الإسلامية، ومع ذلك نجد الرجوع إلى القرآن إما قليل أو نادر, وأحياناً لا يكاد يُلتفت إليه! وهذا من العجب, ومن الإغفال, فالمشكلة هي أن الناس لم تأت إلى هذا المنهل العذب الصافي الذي فيه الشفاء وفيه البيان, وليست من أي شيء آخر.
    مَن وفقه الله تبارك وتعالى وفقهه في الدين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين), إذا تفقه من تفقه في الدين ومن تدبر القرآن ولم يكن على قلبه قفل فإنه يجد من العجائب ما يتلذذ به، وما يرتاح إليه, وما يشفي كل هذه التساؤلات التي ترد على الذهن، وعلى الإنسان في أي مرحلة من المراحل, وفي أي مشكلة وأي قضية؛ كما قال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [ما من شبهة إلا وجوابها في كتاب الله علمها من علمها وجهلها من جهلها].
    فلنأت إذاً على قضية الوجود الإنساني, أو وجود الكون, ثم الوجود البشري، ثم كيف جاء في القرآن ما يسد هذه الفجوات والثغرات ويُغني عن هذا التضارب وهذا الفصام النكد، والمعركة بين الدين -كما يقولون- وبين العلم وبين الأسطورة أيضاً من ناحية أخرى.
  2. إخبار القرآن بوقت نزول التوراة الذي كان فاصلاً بين عهدين

    العرب -كما قلنا في الحلقة الماضية- لديهم حد فاصل معروف؛ وهو أن هناك عرباً بائدة أو عرب عاربة، وهي بمعنى تاريخ قديم, وتاريخ حديث؛ والحديث يبدأ من العرب المستعربة أي: من ذرية إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، فهنا حدٌ وضع.
    لما جاء القرآن جاءنا بمعلم وبفاصل جديد أوسع وأجلى وأعم من قضية ما كان متعارف عليه عند اليونان والرومان، وكذلك ما كان عند العرب في الجاهلية.
    هناك آيات -كما قلت- نحتاج أن نتدبرها قليلاً قليلاً، ولا نهمل أي معنى أو أي جزئية تتعلق بهذا الموضوع، وسوف نكتشف من مجموع آيات في كتاب الله تبارك وتعالى عجائب وحقائق كثيرة جداً.
    مثلاً: في سورة القصص بعد أن بيَّن الله تبارك وتعالى التفصيل المحكم والبيان في قصة موسى وفرعون ذكر الله سبحانه وتعالى معلماً تاريخياً قلَّ من ينتبه له؛ ولكن تنبه له الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ وهو قول الله تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى ))[القصص:43], فنلاحظ ملحظاً هنا؛ وهو أن هناك كتاباً -الذي هو التوراة- نزل، وأن ما قبله سماهم الله تبارك وتعالى القرون الأولى.
    ونجد في سورة طه أن فرعون يقول لموسى عليه السلام: (( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ))[طه:51-52], ونجد أنه في عدة مواضع يأتي مثل ذلك, كما في قوله: (( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ))[آل عمران:11], (( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ))[الحاقة:9], وهكذا.
    ففي مواضع كثيرة نجد أن إنزال التوراة على موسى عليه السلام -بعد أن أغرق الله تبارك وتعالى فرعون ونجاه, وذهب إلى الأرض المباركة وإلى جبل الطور- كان معلماً وفاصلاً بين عهدين:
    العهد الذي يمكن أن نسميه القرون الأولى.
    والعهد الذي يمكن أن نسميه القرون الأخرى أو المتأخرة.
    وفي هذا حكم ومعان وقضايا تاريخية عجيبة، فمثلاً: أن الله عز وجل لم يهلك أمة من الأمم المكذبة والكافرة بعامة؛ من بعد أن أنزل التوراة على موسى عليه السلام.
    يعني: أصبحت السنن التاريخية، والسنن التي جعلها الله في هذا الكون تعمل تلقائياً، فأصبح الجهاد فرضاً على المؤمنين, والإبلاغ والبيان فرضاً على المؤمنين مقابل الكافرين, وينصر الله تبارك وتعالى ويعز دينه في النهاية، وإن كانت الحرب بينهم دولاً: (( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ))[آل عمران:140]؛ لكن المهم أن السنن البشرية الكونية العامة تعمل.
    ما قبل ذلك -يعني: من فرعون فما سبق- هناك إهلاك وتدمير عام للكافرين وإنجاء فقط للمؤمنين، وهذا واضح جداً في كتاب الله تبارك وتعالى, وفي التاريخ المعروف عن تاريخ الأنبياء في التوراة وفي التاريخ العام.
    إذاً: نجد أن هذا النوع من التضاد أو التنافر، يعني: عندما اكتشف الغربيون الآثار الفرعونية واكتشفوا اللغة الهيروغليفية وغيرها، أحسوا وشعروا بأنهم اكتشفوا التاريخ القديم، بينما نحن نقول: إن هذا هو آخر ما في التاريخ القديم، ومِن بعده يبدأ التاريخ الحديث والمعروف؛ والذي هو نزول التوراة!
    متى أُنزلت؟ طبعاً هناك تقديرات أنها حوالي عام ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة, يعني: في القرن الثالث عشر وربما القرن الرابع عشر قبل الميلاد, من الألف الذي هو تاريخ داود وسليمان عليهما السلام قبل المسيح بألف سنة تقريباً؛ من هنا التاريخ الحاضر معروف معرفة شبه كلية جيدة تماما ًكما أشرنا في اللقاء الماضي.
    بمعنى آخر: نحن الآن عندما نريد أن نحل المشكلة التاريخية التي وقعت في كل نسخ التوراة ؛ العبرية أو اليونانية أو السامرية, والتي جعلت أوروبا تقع في هذه المعركة الكبيرة ولم تجد مخرجاً ولا متخلصاً إلا أن تكفر بـ التوراة وبتواريخها؛ إلا من ظل منهم متعصباً مثلما أشرنا إلى حاكم ولاية أركنسو المنافس للرئيس كلينتون مثلاً وغيره من هؤلاء.