هذا القرآن الكريم هو حق كما قالت عنه الجن: (( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ))[الجن:1], فهو كلام عجب، ولا يمكن لأحد أن يصف القرآن بأعظم مما جاء في وصف القرآن في القرآن: (( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))[هود:1]؛ فهذا الإحكام وهذا التفصيل في الأحكام, وفي أخبار الأولين والآخرين, وفي تقرير العقائد, وفي كل مشكلة يحتاج إليها البشر، وفي كل إشكال؛ شفاء لما في الصدور من الشكوك والوساوس، فهو بيان وهو شفاء وهو حكمة وهو رحمة وهو هدى وهو موعظة وهو ذكرى.. إلى غير ذلك مما هو حديث شيق عظيم؛ ولكنه ليس هو موضوع مقامي هذا؛ وهو هذه المنزلة العظيمة للقرآن في هذا الشأن.فالله تبارك وتعالى قال في هذا الخصوص: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))[النمل:76], (أكثر) يعني: أكثر القضايا العامة المهمة وأكثر المشاكل الحقيقية التي إذا حُلَّت انكشفت المشكلات, وذهبت الشبهات وانجلت، فإما أن يؤمنوا بالحق وإما ألا يؤمنوا عن جحود وليس عن ضعف في الحجة، وهذا يَصدق على كل من يسمع القرآن؛ إن كان مؤمناً به وإن كان غير مؤمن لا يملك إلا أن يوقن بأنه عجب, وأن فيه التفصيل، وأن فيه البيان، وأن فيه الحكمة؛ لكن قصرت أفهام الناس عن الاستنباط مع أنه ميسَّر! (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ))[القمر:17], فهو ميسر في الحقيقة؛ لكن ضعف اللغة وعدم الالتفات أحياناً إليه! -مع الأسف الشديد- حتى في الدراسات التاريخية والحضارية, والدراسات التي تتعلق بهذا الموضوع -موضوع نشأة الكون, ونشأة الحضارة, ونشأة الإنسان, وأحوال الأمم الماضية- والتي تشمل كليات وتخصصات الجامعات؛ حتى في الجامعات الإسلامية، ومع ذلك نجد الرجوع إلى القرآن إما قليل أو نادر, وأحياناً لا يكاد يُلتفت إليه! وهذا من العجب, ومن الإغفال, فالمشكلة هي أن الناس لم تأت إلى هذا المنهل العذب الصافي الذي فيه الشفاء وفيه البيان, وليست من أي شيء آخر.مَن وفقه الله تبارك وتعالى وفقهه في الدين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين), إذا تفقه من تفقه في الدين ومن تدبر القرآن ولم يكن على قلبه قفل فإنه يجد من العجائب ما يتلذذ به، وما يرتاح إليه, وما يشفي كل هذه التساؤلات التي ترد على الذهن، وعلى الإنسان في أي مرحلة من المراحل, وفي أي مشكلة وأي قضية؛ كما قال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [ما من شبهة إلا وجوابها في كتاب الله علمها من علمها وجهلها من جهلها].فلنأت إذاً على قضية الوجود الإنساني, أو وجود الكون, ثم الوجود البشري، ثم كيف جاء في القرآن ما يسد هذه الفجوات والثغرات ويُغني عن هذا التضارب وهذا الفصام النكد، والمعركة بين الدين -كما يقولون- وبين العلم وبين الأسطورة أيضاً من ناحية أخرى.